الفصل الثاني: عصر الطوسي

عصر الشيخ الطوسي

تميز القرنان الرابع والخامس بعد الهجرة النبوية الشريفة بتلاحق الاحداث المختلفة‏والمتارجحة بين الشدة والرخاء والحرية والاضطهاد تبعا للظروف السياسية، وحسب‏طبيعة الخلفاء المتعاقبين على السلطة، وكانت تلك المتغيرات والتقلبات السياسية قدتركت‏بصماتها على الشيخ الطوسي، كما تركت آثارها على غيره من ابناء ذلك العصر.

وقدشهد اقليم خراسان نوعا من الاضطهاد والقهر بسبب السياسة المتزمتة التي‏اتسمت‏بطابع قمعي ابان حكم السلطان محمود الغزنوي، والتي نال من ويلاتها طلبة العلوم‏العقلية نصيبا ليس بالقليل باعتبارهم اندادا ومعارضين للسلفيين من اتباع المذهب السني،حيث قدبالغ السلطان محمود الغزنوي في تعذيبهم والاساءة اليهم، فنفي خلقا كثيرا من‏المعتزلة والرافضة والاسماعيلية والجهمية والمشبهة، وامر بلعنهم على المنابر (1) . كمالم‏يسلم الفلاسفة من اضطهاده، حيث قدجد في تعقبهم وابادتهم، وكان كذلك متممالسياسته في تعقب القرامطة الذين تغلب عليهم، حتى شنق بامره في يوم واحد مئتان بتهمة‏الاعتزال وسوء المذهب.

ثم اعقب ذلك تفاقم الاوضاع وسوء الحالة، حينما تضاعفت‏حالة الاضطهاد المذهبي،واشتدت في خراسان خاصة بعد وصول الدعوة الاسماعيلية المصرية اليها (2) ، الامر الذي‏ادى بالشيخ الطوسي كما ادى بغيره من العلماء وطلاب العلوم من غير ابناء المذهب السني‏لان يهربوا من جحيم الاضطهاد الى بلد آخر، فكانت‏بغداد محط الرحال لهم، والتي لم‏تكن‏هي ايضا بمنجى عن آثار هذه السياسة الجائرة، وان كانت احسن حالا من غيرها بسبب‏وجود البويهيين على راس الحكم فيها.

ولعل تاريخ الاضطهادالفكري في العصر العباسي يعود الى ماقبل وصول الشيخ‏الطوسي الى بغداد بكثير، حيث كان السبب في هذا الاضطهاد هو الصراع الفكري القائم بين‏المدارس الكلامية والفقهية، والتي يشكل الخلاف الحاد بين اصحاب النزعة السلفية‏والنزعة العقلية اهم مظاهره، مما اثار غضب السلطة العباسية ايام المتوكل على الله(232-247ه )، والذي كان منحازا وبشكل متطرف الى المدرسة السلفية، تلك المدرسة‏التي اخذت تضطهد الفئات المخالفة لها كالمعتزلة والشيعة، وكل من يحاول التوفيق بين‏احكام العقل واحكام الشرع (3) ; وبانحياز الخليفة لهذا الاتجاه يكون السلفيون قدزادوا من‏نفوذهم، وصاروا يلوحون بعصا التهديد لمن خالفهم، حتى صاروا «حكومة داخل‏حكومة‏» (4) .

وقدتدخلوا في شؤون الناس الخاصة; مما سبب الاستياء العام بعد ان عجزت السلطة‏عن ردعهم، الامر الذي شجع الامراء على الخروج عن اوامر السلطة المركزية، فاعلنوااستقلالهم، مما اثار غضب الخليفة المستكفي بالله (333-334ه ) على الاتراك الذين كانوايتولون امور البلاد، وضبط الامن فيها، واضطر عندها للاستنجاد بالبويهيين ليتسلموا السلطة في العراق، ووضع حد للارتباك والفوضى (5) .

وقدكان البويهيون آنذاك قوة لايستهان بها، لذلك اصبحوا فيما بعد السادة الجددللخلافة العباسية (6) ، عام 334ه مستفيدين من تجربة القمع الفاشلة والتي لم‏يجن اصحابهانفعا، فسلكوا طريقا وسطا بانتهاجهم سياسية معتدلة مع كل الفرق واصحاب المدارس‏والاتجاهات، بغية اقرار الامن وبسط النظام واعادة هيبة الدولة، وقدارادوا ان يثبتوا للناس‏انفتاحهم وعدم انحيازهم لفئة من خلال فرضهم الاوامر المشددة ضد الشيعة، رغم انتمائهم‏المذهبي للتشيع، حيث قدبلغوا حدا منعوهم معه من اقامة شعائرهم الدينية (7) . كما واقدمواعلى نفي الشيخ المفيد عن بغداد، فغادرها عام 393ه (8) .

وقدتبين لعامة الناس ان البويهيين كانوا افضل ممن سبقهم من الحكام، اذ انهم ورغم‏كونهم شيعة، لم‏يحاولوا تسليط ابناء مذهبهم على اهل السنة، فساد الهدوء في عصرهم،وازد هرت العلوم بسبب سياسة الانفتاح واللين التي مارسوها; ولاطلاقهم الحرية الدينية‏والحرية الفكرية والحرية القلمية (9) . وقدظهر ذلك واضحا في عهد عضدالدولة (10) (367-372) الذي كان يؤثر مجالسة الادباء على منادمة الامراء (11) . وله دار بشيراز وخزانة‏للكتب عليها وكيل وخازن ومشرف من عدول البلد، ولم‏يبق كتاب صنف الى وقته من انواع‏العلوم كلها، الا وحصله فيها، والدفاتر منضدة على الرفوف، ولكل نوع بيوت، وفهرستات‏فيها اسامي الكتب (12) .

وقد كرم عضد الدولة العلماء من الفلاسفة، وافرد لهم في داره موضعا يقرب من مجلسه،يجتمعون فيه للمفاوضة، وكان هو نفسه مشاركا في عدة من فنون الادب، واخرج من‏بيت‏المال اموالا عظيمة صرفت في ابواب العلم وتحصيله، وعلى الصدقات لذوي الحاجة‏من اهل الملة، وتجاوزهم الى اهل الذمة (13) .

كما عمل على النهوض بمرافق بلاده بشكل مثير، فعمد الى تشجيع العلماء والقراء،وشيد المساجد والمستشفيات وغيرها من المنشآت العامة، واصلح القنوات والآبار،فامتلات بالمياه، كما خصص جزءا من اموال الدولة للترفيه عن الفقراء (14) .

وقد صحب عضد الدولة عدد كبير من العلماء والكتاب، وصنفوا له كتبا قيمة مثل كتابي‏الايضاح وكتاب التكملة في النحو الذي صنفه الشيخ ابوعلي الحسن‏بن احمدبن عبدالغفارالفارسي‏النحوي (288-377ه ) (15) .

وكان امام زمانه في علم النحو، وكذلك كتاب التاجي في اخبار بني‏بويه لابي اسحاق‏ابراهيم‏بن هلال‏بن هارون الحراني الصابي (320-384ه ) (16) ، الذي كان كاتب الانشاءببغداد في عهد الدولة البويهية.

ولا غرابة ان تزدهر العلوم في مثل هذا العهد ازدهارا سريعا، وينبغ العديد في مختلف‏العلوم والفنون والآداب، سيما وان العهد البويهي جاء بعد فترة من الاضطهاد الفكري‏الخانق، فتفتقت الطاقات ونمت المواهب في ظل عهد يحترم العلم، ويكرم العلماء، ولذلك‏تزخر ايام البويهيين باصحاب الفكر والادب والفقه والتفسير والشعر والحديث، وغيرها من‏امثال الشيخ المفيد ابوعبدالله محمدبن محمدبن النعمان (336-413ه ) (17) ، والشريف‏الرضي ابوالحسن محمدبن الحسين (359-406) (18) ، حيث كان نقيب النقباء وشاعر عصره،واليه كانت امارة الحج والمظالم.

وكذلك الشريف المرتضى ابوالقاسم علي‏بن الحسين الموسوي المعروف بعلم‏الهدى(355-436ه ) (19) ، ومن ثم صاحبنا الشيخ الطوسي، ومن قبله كان ابوجعفر محمدبن يعقوب‏الكليني (ت سنة 329ه ) (20) ،وهو احد شيوخ الشيعة الامامية وصاحب كتاب الكافي، احدالاصول الاربعة عندهم، وكذلك ابوالقاسم جعفربن محمدبن جعفربن موسى‏بن قولويه (21) ،والذي يعتبر من كبار علماء الامامية، واستاذ الشيخ المفيد والمدفون حاليا في مدينة‏الكاظمية ببغداد بجوار الامامين موسى الكاظم ومحمد الجوادعليهما السلام، والذي كانت وفاته سنة‏368ه; وكذلك الشيخ الصدوق ابوجعفر محمدبن على‏بن بابويه القمي (22) الذي يعتبر رئيس‏المحدثين واحد شيوخ الشيعة الامامية، ويعد كتابه من لايحضره الفقيه احد الاصول الاربعة‏عند الامامية، وقد توفي عام 381ه ، كما ونبغ في هذا العصر الكثيرون من شيوخ‏واصحاب الفرق الكلامية مثل:

الماوردي ابوالحسن علي بن محمد بن حبيب البصري (23) صاحب كتاب الاحكام‏السلطانية، وهو احد فقهاء الشافعية، وقد توفي في بغداد سنة 450ه .

والجويني امام الحرمين ابوالمعالي ضياءالدين عبدالملك‏بن عبدالله‏بن يوسف(419-478ه ) (24) ، وهو احد فقهاء الشافعية; والباقلاني ابوبكر محمدبن الطيب‏بن محمد،توفي في بغداد عام 403ه (25) ، وهو اشعري المذهب، وقد انتهت اليه رياسة المذهب‏الاشعري، وكان ممن صنف في علم الكلام; والبصري ابوالحسين محمدبن علي الطيب‏المتوفى سنة 436ه (26) ، ويعتبر من اكبر شيوخ المعتزلة، وكان امام وقته في علم الكلام;وابن‏الصباغ ابونصر عبدالسعيد بن محمدبن عبدالواحد (400-477) (27) ، وقد درس في‏المدرسة النظامية ببغداد، واعتبر فقيه العراقيين في عصره، وكان شافعي المذهب;والدامغاني ابوعبدالله محمدبن علي(398-478ه ) (28) ، وكان استاذ المذهب الحنفي، وقدعين بمنصب قاضي القضاة سنة 447ه; والبغدادي ابوالوفاء علي‏بن محمدبن عقيل‏الظفري المقرئ (431-513ه ) (29) ، وهو احد شيوخ الحنابلة وكان فقيها واصوليا متكلماوواعظا.

ومثل هذا الخليط من العلماء والفقهاء والمتكلمين والمنتمين الى مذاهب شتى يعكس‏لنا بوضوح طبيعة الاجواء العلمية السائدة في العصر البويهي، ويؤكد وجود الحرية الفكرية‏والانفتاح العلمي على كل المذاهب، دون ان يختص الاهتمام البويهي بطائفة من الناس‏على حساب غيرهم، حيث كان الامامي والشافعي والحنفي والحنبلي والاشعري‏والمعتزلي كلهم يلقون الرعاية والعون والحماية، ومما يؤكد هذا ان عضد الدولة نفسه كان‏يكرم العلماء اوفى اكرام، وينعم عليهم اهنا انعام ويقربهم من حضرته، ويدنيهم من خدمته، ويعارضهم في اجناس المسائل، ويفاوضهم في انواع الفضائل، فاجتمع عنده من كل طبقة‏اعلاها، وجنى له من كل ثمرة احلاها (30) .

كما كان الوزير البويهي سابوربن اردشير نفسه اديبا فقيها، من اهل الفضل والادب (31) عفيفا عن الاموال كثير الخير سليم الخاطر (32) ، ولذلك كان اهتمامه كبيرا بالعلوم والآداب،واحترامه جما للعلماء والادباء، وكانت دار العلم التي انشاها مكانا لتجمعهم ونقطة‏اجتذاب لهم، وقدآلت تلك الدار بعد وفاة مؤسسها سابوربن اردشير عام 416ه الى‏الشريف المرتضى الذي عين عليها ابا عبدالله بن احمد مشرفا (33) ، وقدبقيت هذه الدار عامرة‏بالعلماء وطلاب العلوم الى ان احترقت عام 451ه عند دخول طغرلبك (34) اول سلاطين‏السلاجقة الى بغداد، بعد ان قضى على حركة مقدم الاتراك ببغداد ابو الحرث ارسلان‏بن‏عبدالله البساسيري (35) ، ولم‏تكن دار العلوم قداحترقت وحدها، وانما احترق قسم كبير من‏محال بغداد (36) في وقتها، هذا وقدامتاز عهد آل بويه بالتقدم الكبير في مجال العلوم والآداب‏سواء بتاثير البويهيين انفسهم او بتاثير وزرائهم الذين كان جلهم من العلماء والشعراءوالكتاب (37) ، مما حول بغداد الى كعبة للعلم والعلماء، يقصدها طلاب العلوم من كل مكان،خاصة بعد ان شيد الوزير البويهي ابونصر سابوربن اردشير (336-416ه ) دارالعلم،وابونصر هذا كان يلقب بهاء الدولة، وهو من اكبر الوزراء لدى ابي نصر بن عضدالدولة‏البويهي، حيث جمعت فيه الدراية والكفاية (38) وكان بابه محط الشعراء والادباء (39) .

وتعتبر دار العلم اول مدرسة وقفت على الفقهاء (40) منذ ان تاسست عام 381ه (41) في‏منطقة الكرخ ببغداد في محلة تسمى بين السورين (42) وكانت هذه المدرسة ملتقى الادباءوالعلماء والباحثين، وكان قدتردد عليها الشاعر المعروف ابو العلاء المعري عام 399ه ، واقام فيها سنة وسبعة اشهر، ثم غادرها الى وطنه (43) ; لينشد لها قصيدة يقول فيها:

وغنت لنا في دار سابور قينة.

من الورق مطراب الاصايل مهياب (44) .

وقد كانت هذه الدار على غرار بيت الحكمة الذي انشاه الخليفة العباسي هارون الرشيد(170-193ه ) حيث استطاع سابوربن اردشير ان ينقل اليها كتبا كثيرة ابتاعها، وجمعها،وعمل لها فهرستا، ورد النظر في امورها ومراعاتها والاحتياط عليها الى الشريفين ابي‏الحسين محمدبن الحسين‏بن ابي شيبة، وابي عبدالله محمدبن احمد الحسني والقاضي‏ابي‏عبدالله الحسين‏بن هارون الضبي، وكلف الشيخ ابابكر محمدبن موسى الخوارزمي،فضل‏عناية بها (45) وكان فيها اكثر من عشرة‏آلاف مجلد (46) ولعل الاختلاف الذي وقع ، وبين ماذكره ابن‏العماد في‏شذرات‏الذهب عندما حدد عام تاسيسها في 383ه (48) ، سببه المدة التي قضاها الوزيرالبويهي سابوربن اردشير بجمع الكتب والمخطوطات اليها; لكي تحتوي فيما بعد على‏اصناف العلوم، وتضم مائة مصحف بخطوط بني مقلة (49) ، اذا لم‏تكن في الدنيا احسن كتبا منهاكلها بخطوط الائمة المعتبرة واصولها المحررة (50) .

وطبيعي جدا لانشاء مكتبة كهذه ان يستغرق انشاؤها وجمع كتبها سنتين من الزمان،فقدجمع فيها الوزير البويهي ماتفرق من كتب فارس والعراق، واستكتب تاليف اهل الهندوالصين والروم (51) ، كما واخذ العلماء يهدون للوزير البويهي سابوربن اردشير مؤلفاتهم، لانه‏كان من اهل الفضل والادب، فاصبحت مكتبته من اغنى دور الكتب ببغداد (52) .

كما وانشئت دار اخرى في بغداد من قبل الشريف الرضي، وسماها «دار العلم‏» (53) ، وفيهاسكن للطلاب، وقدوفر لهم جميع مايحتاجون اليه (54) ، حيث‏يتبع الدار مخزن كبير يحوي‏على كل الوسائل المادية التي يحتاجها الطلاب، كما وتوجد الى جانب هذا خزانة كبيرة‏منظمة تنظيما حسنا (55) وكانت تعرف بخزانة دار العلم. وقدضمت‏بغداد مكتبة اخرى‏للشريف المرتضى تحتوى على ثمانين الف مجلد، (56) .

كان يؤمها الباحثون والعلماء والادباء بالاضافة الى ذلك فقد دفع الشريف المرتضى‏الحركة العلمية شوطا بعيدا عندما «اوقف قرية على كاغد الفقهاء» (57) ، هذا الى جانب ماكان‏يقدم عليه المحسنون في بغداد من انشاء المدارس، ثم يوقفون عليها بعض املاكهم لسدحاجات المدرسين والطلبة (58) .

كل هذه الامور اوجدت حركة ثقافية وعلمية ممتازة في بغداد شجعت طلاب المعرفة‏الى الهجرة اليها والاستزادة من علوم المدارس فيها، وكان شيخنا الطوسي واحدا من بين‏العديدين من اولئك الذين آثروا الهجرة الى بغداد والدراسة فيها.

ولم‏يكتب لهذه الحياة الرغيدة ان تدوم اذ تكدر صفو الامن والهدوء في بغداد، حيث ان‏الازدهار الثقافي والحركة العلمية التي تمت في اجواء الحرية كانت قد اوجدت ردة فعل‏معاكسة وخطيرة في نفوس السلفيين الذين جهدوا للحيلولة دون نمو التيار العقلي‏واستطاعوا فعلا اقناع السلطة الحاكمة آنذاك لان تضيق على رجال العلم وطلبة العلوم‏العقلية بعد ان صدقوا مقولات السلفيين فيهم، وعندها بدات سياسة الارهاب والكبت تاخذطريقها الى اكثر قطاعات الامة على اوسع نطاق، بعد ان صعد السلفيون من حملتهم على‏طلبة العلوم واعتبروهم خطرا على الدين، فاصبح اضطهادهم ومطاردتهم امرا يتم تحت‏اعين السلطة وعلمها، حيث‏بعث الخليفة القادر بالله (381-422) الى السلطان محمودالغزنوي (59) في بلاد فارس عام 408ه ، يامره ببث السنة بخراسان (60) .

ففعل ذلك و بالغ وقتل جماعة و نفى جماعة من المعتزلة (61) ، و الرافضة (62) و الاسماعيلية (63) والجهمية (64) والمشبهة (65) ، وامر بلعنهم وقداستجاب السلطان‏الغزنوي لاوامر الخليفة العباسي، واستن بسنته في قتل المخالفين ونفيهم وحبسهم (67) ، وقداعدم الكثيرين من رعاياه بتهمة الالحاد (68) ، ولم‏يكتف بذلك، بل قام هذا السلطان عام‏420ه باحراق ماوصلت اليه يداه من كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض (69) .

ولعل من اهم الاسباب التي دعت العباسيين لان يدعموا موقف السلفية هو رغبتهم في‏جعلها قوة مناوئة بوجه النفوذ الفاطمي الذي قويت‏شوكته في مصر، ومن ثم وجدت لهاطريقا سالكا باتجاه العراق، فانتشرت دعوتهم في كل مكان منه (70) ، الامر الذي اغضب‏الخليفة العباسي واقلقه، فحرض الغزنويين على البطش والفتك بكل من خرج عن المنهج‏السلفي، ولذلك دعا الخليفة القادر ذوي المكانة الدينية والعلماء لشن حملة تشكيك مكثفة‏ضدالفاطميين، سواء من خلال الطعن بعلويتهم، او نسبهم الى الكفر والفسق ونحو ذلك (71) ;واخذ يضطهد كل من له صلة بخليفة القاهرة.

الا ان مثل هذه السياسة المتشددة التي اقدم عليها العباسيون لم‏تحل دون نجاح الدعوة‏الفاطمية، وانما ازداد اقبال الناس عليها، حتى في عاصمة الخلافة العباسية نفسها،وقدتضاعف هذا الاقبال بشكل اشد بعد انتزاع البساسيري بغداد من ايدي العباسيين‏ودعوته الناس بشكل علني للخليفة الفاطمي وذلك سنة 450ه ، حيث‏خطب للمستنصربالله (72) .

وقبل ذلك كان داعي الدعاة الفاطمي هبة‏الله الشيرازي (73) يعمل لتكوين جبهة معارضة‏للعباسيين من امراء العرب والاكراد، فخلع عليهم الخلع الفاطمية النفيسة التي لم‏يشاهدوالها مثيلا (74) ، كما واستطاع الشيرازي هذا ان يضم ابراهيم (75) اخاطغرلبك الى الفاطميين (76) .

وبهذا اشتد الصراع السياسي، ولم‏يكن بمقدور السلطة القائمة آنذاك السيطرة على‏الموقف، وفي سنة‏416ه كثرت اعمال السلب والنهب، وقدزاد من سوء الاوضاع سيطرة‏الاتراك على بغداد عام 417، فاكثروا مصادرات الناس، وعظم الخطب، وزاد الشر (77) ، واستمرت الحالة في التردي حتى وصلت اوجها عندما استولى السلاجقة الذين كانوايمتازون بالتطرف والانحياز لصالح الاتجاه السلفي على بغداد عام 447ه ، فاسرفوا في‏البطش والارهاب بكل من خالف مذهبهم، وعاش العراقيون اشد سنيهم بين عامي (447و449ه )، حيث عمت المجاعة، وكثر الغلاء، واكل الناس الميتة، ولحقهم وباء عظيم، فكثرالموت، حتى دفن الموتى بغير غسل ولاتكفين بعد ان عجز الناس عن دفن موتاهم (78) ،وقدفقد الامن واضطرب النظام فنهبت الرصافة وترب الخلفاء (79) .

كل هذا كان يجري والى جانبه يضيع الكثير من التراث الاسلامي، ويافل نجم الفكروالعلم والادب، ويتعرض رجاله للاضطهاد والتعذيب، وكان شيخنا الطوسي واحدا من بين‏العديدين من العلماء الذين تعرضوا للاذى، حيث كبست داره واحرقت كتبه (80) ، وفي عام‏451ه احرقت‏بغداد الكرخ وبين السورين واحترقت فيه خزانة الكتب التي اوقفها اردشيرالوزير (81) .

ومن الجدير بالذكر ان مكتبة الوزير البويهي سابوربن اردشير غدت من اهم مراكزالتشيع واهم الوسائل لبث الدعوة الشيعية آنذاك (82) .

مما حمل السلاجقة على شن هجوم عنيف ضد كل المؤسسات الدينية والتعليمية‏للشيعة بما فيها اوقاف التعليم (83) ، الامر الذي افقد المكتبة الاسلامية نفائس الكتب التي‏صارت هدفا لاطماع الموظفين واصحاب الغنائم الخاصة (84) ، بالاضافة الى ذلك فقدعمدالسلاجقة الى تاسيس المدرسة النظامية في بغداد كوسيلة لمقاومة التشيع على الصعيدالفكرى (85) ; ولغرض ايقاف التيار العقلي الذي كان ينتهجه الشيعة والمعتزلة ايضا، وقدبذل‏الوزير السلجوقي في هذا السبيل جهودا كبيرة واموالا كثيرة، يظهر ذلك بوضوح من خلال‏قراءة بعض ماجاء برسالته الى الب ارسلان والتي يقول فيها:

جعلت لك من خراسان جندا ينصرونك ولايخذلونك، ويرمون دونك بسهام لاتخطئ،وهم العلماء والزهاد، فقد جعلتهم بالاحسان اليهم من اعظم اعوانك (86) .

وقدلقيت المدارس النظامية موجة من المقاومة اثارها الحنابلة (87) ; لان تلك المدارس‏كانت تدعو للمذهب الشافعي، فاشتد الصراع بين المذهبين، واصبحت‏بغداد كغيرها من‏الامصار الاسلامية ميدانا للخلافات المذهبية التي عصفت‏بالهدوء والنظام معا.

اما شيخنا الطوسي فقداضطر الى الهجرة باتجاه النجف الاشرف بعد ما راى الخطرمحدقا به (88) ، حيث توسعت الفتنة لتشمل شيخ الطائفة واصحابه، فاحرقوا كتبه وكرسيه الذي‏كان يجلس عليه.

يقول ابن الاثير الجزري في التاريخ الكامل في حوادث سنة 449ه :

نهبت دار ابي‏جعفر الطوسي بالكرخ، وهو فقيه الامامية، واخذ مافيها، وكان قدفارقهاالى المشهد الغروي.

ويبدو ان كتب الشيخ الطوسي قداحرقت عدة نوب بمحضر من الناس في رحبة جامع‏النصر.

وفي عام 449ه كبست دار ابي‏جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ، واخذ ماوجد من‏دفاتره وكرسي كان يجلس عليه للكلام، واخرج الى الكرخ، واضيف اليه ثلاثة سناجق (89) بيض كان الزوار من اهل الكرخ قديما يحملونها معهم اذا قصدوا زيارة الكوفة فاحرق‏الجميع (90) .

وهناك في مدينة النجف الاشرف استقر الطوسي، حيث وجد فيها حركة علمية، فسعى‏الى تنميتها، وقدتمكن بعد سنوات قليلة من ان يجعل هذه المدينة مركزا للتخصص في الفقه‏والاصول، بعد ان انشا الحوزة العلمية فيها والتي تحولت‏بفضلها الى واحدة من اكبرالجامعات الاسلامية في العالم.

ولعل اهم مايثير انتباه الباحث في دراسته لاحوال الشيخ الطوسي، هو اصراره على‏مواصلة الدرب في منهجه التعليمي رغم كل مالقيه من متاعب ومشاكل على هذا الطريق،فلم‏تثن المحن والمشاكل من عزمه، بل عاود نشاطه في موطنه الجديد في مدينة النجف‏الاشرف، وجمع حوله العديد من طلبة العلوم الدينية; ليكمل رسالته التي هجر مسقط راسه‏من اجلها.

تعليقات:


1) ابن العماد، شذرات الذهب، ج‏3، ص‏186; اليافعي، مرآة الجنان، ج‏3، ص‏22.

2) مصطفى جواد، مقالة في مجلة المجمع العليب العراقي، مج‏4، ج‏2، ص‏512.

3) المسعودي، مروج الذهب، ج‏4، ص‏86.

4) احمد امين، ضحى الاسلام، ج‏3، ص‏200.

5) مسكويه، تجارب الامم، ج‏6، ص‏85.

6) السامر، الدوله الحمدانية، ج‏1، ص‏257.

7) ابن الجوزى، المنتظم، ج‏8، ص‏140.

8) ابن الاثير، الكامل، ج‏9، ص‏86.

8) عضدالدوله، هو ابو شجاع فنا خسرو بن ركن‏الدولة ابي الحسن‏بن ابي شجاع بويه، انظر القمي،الكنى والالقاب،ج‏2، ص‏333; وابن الوردي، التاريخ، ج‏1، ص‏424.

10) الثعالبى، يتيمة الدهر، ج‏2، ص‏216.

11) المقدسي، احسن التقاسيم، ص‏449.

12) زيدان، تاريخ آداب اللغة.

13) مسكويه، تجارب الامم، ج‏6، ص‏408.

14) دائرة المعارف الاسلامية، ماده بابويه، ج‏4، ص‏357.

15) الزركلى، الاعلام، ج‏2، ص‏193; ابن‏خلكان، وفيات الاعيان، ج‏1، ص‏361.

16) زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية، ج‏2، ص‏275; ابن‏خلكان، وفيات الاعيان، ج‏1، ص‏34.

17) الطوسى، الرجال، ص‏458.

18) الثعالبي، يتيمه الدهر، ج‏3، ص‏137; متز، الحضارة الاسلامية، ج‏1، ص‏312; ابن‏الجوزى، المنتظم، ج‏7،ص‏281; ابن‏خلكان، وفيات‏الاعيان، ج‏4، ص‏44; الطريحي، مجمع البحرين، ج‏1، ص‏189; التستري، قاموس‏الرجال، ج‏8، ص‏148.

19) الطوسى، الفهرست ص‏98-100.

20) القمي، الكنى‏والالقاب، ج‏2، ص‏103; بحرالعلوم، الرجال ج‏3، ص‏325; ابن‏شهر آشوب، معالم الرجال،ص‏88.

21) الطوسى، الرجال، ص‏458; ابن‏حجر، لسان‏الميزان، ج‏2، ص‏125; القمي، الكنى والالقاب، ج‏1، ص‏385.

22) القمي، الكنى والالقاب، ج‏1، ص‏216; بروكلمان، تاريخ الادب العربي، ج‏3، ص‏343; الطوسى، الفهرست،ص‏67.

23) ابن‏خلكان، وفيات الاعيان، ج‏2، ص‏444; الطاهر، الشعر العربي، ج‏1، ص‏65.

24) السبكي، طبقات الشافعيه ج‏5، ص‏165; ابن‏خلكان، وفيات الاعيان، ج‏2، ص‏341.

25) ابن‏خلكان، وفيات الاعيان، ج‏3، ص‏400.

26) نفس المصدر، ج‏3، ص‏401.

27) الطاهر، الشعر العربي، ج‏1، ص‏66; ابن‏خلكان، وفيات الاعيان، ج‏2، ص‏385.

28) الطاهر، الشعر العربى، ج‏1، ص‏66.

29) البغدادي، الذيل على طبقات الحنابلة، ج‏1، ص‏142.

30) الروذ راوري، ذيل تجارب الامم، ج‏3، ص‏68.

31) بحر العلوم، دليل القضاء الشرعي، ج‏3، ص‏180.

32) ابن كثير، البداية والنهاية، ج‏12، ص‏19.

33) الحموي، معجم الادباء، ج‏6، ص‏359.

34) دائرة المعارف الاسلامية، ماده طغرلبك، ج‏15، ص‏230.

35) ابن الاثير، اللباب، ج‏1، ص‏121; ابن الوردي، التاريخ، ج‏1، ص‏507; القمي، الكنى والالقاب، ج‏2، ص‏74.

36) الحموي، معجم البلدان، ج‏4، ص‏255.

37) زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية، ج‏2ص‏227.

38) ابن خلكان، وفيات الاعيان، ج‏2، ص‏99.

39) ابن الاثير، الكامل ج‏1، ص‏3; ابن العماد، شذرات الذهب، ج‏3، ص‏104; ابن كثير، البداية والنهاية، ج‏12،ص‏19.

40) ابن كثير، البداية والنهاية، ج‏11، ص‏312.

41) المعري، شروح سقط الزند السفر الثاني، ص‏1240.

42) البغدادي، مراصد الاطلاع، ج‏1، ص‏245; العمري، غاية المرام، ص‏26.

43) ابو الفداء، المختصر، ج‏2، ص‏176.

44) احمد امين، ظهر الاسلام، ج‏1، ص‏251.

45) ابن الجوزي، المنتظم، مادة بين السورين، ج‏7، ص‏172.

46) السيوطى، تاريخ الخلفاء، ص‏412.

47) ابن كثير، البداية والنهاية، ج‏12، ص‏19; ابن الجوزي، المنتظم، ج‏8، ص‏22.

48) ابن العماد، شذرات الذهب، ج‏3، ص‏104.

49) القمى، الكنى والالقاب، ج‏1، ص‏418; متز، الحضارة الاسلامية، ج‏1، ص‏174.

50) الحموي، معجم البلدان، ج‏1، ص‏719.

51) محمد كردعلي، خطط الشام، ج‏6، ص‏185.

52) الطوسي، الامالي، ج‏1، ص‏11.

53) ابن عتبة، عمدة الطالب، ص‏199.

54) الحلي، مقدمة ديوان الرضي، ص‏68.

55) عواد، خزائن الكتب القديمة في العراق، ص‏231.

56) ابن عتبة، عمدة الطالب، ص‏195.

57) الافندي، رياض العلماء، ج‏2، ص‏222.

58) خدابخش، الحضارة الاسلامية، ص‏172.

59) محمودشريف،العالم‏الاسلامى فى العصرالعباسى،ص‏474; حسن‏ابراهيم، تاريخ‏الاسلام‏السياسى،ج‏3، ص‏87.

60) القزويني، آثار البلاد، ص‏361.

61) المعتزلة: هم اصحاب واصل‏بن عطاء الغزال الذي اعتزل مجلس الحسن البصري حول مسالة مرتكب الكبيرة،والقائل بالمنزلة بين المنزلتين، ويدعي المعتزلة باصحاب العدل والتوحيد والقدريه، انظر الشهرستانى، الملل‏والنحل، ج‏1، ص‏57.

62) الرافضه: هم‏الذين رفضوا امامة‏ابي‏بكر وعمر،كما وانه اسم يطلق على الذين رفضوا امامة زيدبن علي‏بن‏الحسين‏عليه السلام الذي ثار ايام خلافة هشام‏بن عبدالملك سنة 121ه .

انظر الاشعري، مقالات الاسلاميين، ج‏1، ص‏87; والمسعودي، مروج الذهب، ج‏3، ص‏217.

63) الاسماعيلية: احدى فرق الشيعة التي تؤمن بامامة اسماعيل‏بن جعفر الصادق، انظر الشهرستانى، الملل والنحل‏للشهرستانى، ج‏1، ص‏278; ودائرة المعارف الاسلامية، ماده الاسماعيلية، ج‏2، ص‏187.

64) الجهمية: فرقه كلامية، جبرية تقول بخلق القرآن وتنسب الى جهم‏بن صفوان، انظر الشهرستاني، الملل والنحل،ج‏1، ص‏113; دائرة المعارف الاسلامية، ماده جهم، ج‏7، ص‏195.

65) المشبهة: فرقة من اهل الحديث تذهب الى القول بالتجسيم، الشهرستانى، الملل والنحل، ج‏1، ص‏145، مادة‏المشبهة.

66) ابن العماد، شذرات الذهب، ج‏3، ص‏186.

67) منز، الحضارة الاسلامية، ج‏1، ص‏363.

68) ابو زهرة، تاريخ المذاهب الاسلامية، ج‏1، ص‏64.

69) المقريزي، اتعاظ الحنفا، ص‏45.

70) حسن ابراهيم حسن، تاريخ الدولة الفاطميه، ص‏228.

71) حسن ابراهيم حسنى، تاريخ الدوله الفاطميه، ص 169; القزوينى، آثار البلاد،ص 418.

72) حسن ابراهيم حسن، تاريخ الدولة الفاطمية، ص‏169; القزويني، آثار البلاد، ص‏418.

73) حسن ابراهيم حسن، تاريخ الاسلام السياسي، ج‏3، ص‏61.

74) المؤيد في الدين، ديوان المؤيد، ص‏43.

75) شلبي: التاريخ الاسلامي، ج‏4، ص‏54.

76) حسن ابراهيم حسن، تاريخ الدولة الفاطمية، ص‏233.

77) ابو الفداء، المختصر، ج‏5، ص‏156.

78) ابن الاثير، الكامل، ج‏9، ص‏266.

79) الحموي، معجم البلدان، ج‏2، ص‏784; ابن الاثير، الكامل، ج‏9، ص‏255.

80) السبكي، طبقات الشافعية، ج‏4، ص‏127; ابن كثير، البداية والنهاية، ج‏12، ص‏71.

81) ابن الاثير، الكامل، ج‏10، ص‏3.

82) غنيمة، تاريخ الجامعات، ص‏58.

83) فياض، تاريخ التربية، ص‏261.

84) ابن الاثير، الكامل، ج‏10، ص‏3.

85) فياض، تاريخ التربية، ص‏102.

86) ابن الاثير، الكامل، ج‏10، ص‏15.

87) متز، الحضارة الاسلامية، ج‏1، ص‏376.

88) الطوسي، الامالي، ج‏1 ص‏13.

89) السنجق: بكسر السين المهملة هو اللواء وجمعه سناجق زنه فاعل.

90) ابن الجوزي، المنتظم، ج‏8، ص‏173.