الخاتمة

بعد هذه الدارسة التي عشنا فيها مع الشيخ الطوسي، وهو يفسر كتاب الله العزيز نستطيع‏ان نجمل ماتوصلنا اليه خلال البحث في النقاط التالية:

1. مفسرنا هو الشيخ ابو جعفر محمدبن الحسن‏بن علي‏بن الحسن الطوسي المتولد في‏مدينة طوس بايران، سنة 385ه والمتوفى سنة 460ه في مدينة النجف الاشرف بالعراق،حيث اصبح مرقده هناك مزارا ومسجدا.

2. عرف الطوسي بشيخ الطائفة ومتكلم الشيعة وفقيه الامامية، وهو احد علماءالامامية في القرن الخامس الهجري، حيث‏يمتلك القابلية على استنباط الاحكام الشرعية‏من مصادرها الاصلية لبلوغه مرتبة الاجتهاد.

3. تميز الشيخ الطوسي بثقافة موسوعية ذات طابع شمولي باتجاهيها الافقي والعمودي‏حيث السعة والاحاطة والعمق والاصالة، الامر الذي جعل منه مفسرا ذا ذهنية اسلامية‏استطاع من خلالها ان يصل بالتفسير القرآني الى مرحلة متطورة آنذاك بما لديه من سعة افق‏وقوة ملاحظة وعمق تفكير.

4. تميز عصر الشيخ الطوسي بكثرة الفتن وضخامة الاحداث السياسية وتعاقبها بين‏الشدة واللين، حيث عاصر مفسرنا عددا من الحكام والولاة الذين تفاوتوا في طريقة‏تعاملهم مع الناس، فمنهم من ازد هرت ابان حكمه الحياة الثقافية والفكرية لتوفر المناخ‏الملائم لها، كما هو الحال في العهد البويهي، وبين من تشدد في سلطانه، ومال الى فئة من‏الناس، ليضطهد غيرهم، كما هو الحال في العهد السلجوقي، وتاثر الشيخ الطوسي بهذه‏الاجواء المتفاوتة، فنراه تارة يحظى باحترام السلطة، ويعطى له كرسي الكلام، كما حدث‏في عهد الخليفة العباسي القائم بامر الله، بينما تضيق تارة اخرى في ايام الحكم السلجوقي،ليهرب من بغداد الى مدينة النجف الاشرف بعيدا عن مسرح السياسة والفتن، بعد ان‏احترقت داره وكتبه والكرسي الذي كان يجلس عليه.

5. شهد عصر الشيخ الطوسي حركة علمية نشيطة ساهمت فيها المدارس الاسلامية‏المختلفة المذاهب والاتجاهات، مما افرز ظاهرة الحوار والجدل والمناظرة التي كثيراماكان الشيخ الطوسي يدلي بدلوه فيها، فيناقش اصحاب المذاهب الاخرى فيما يقولون من‏آراء، كما ويتصدى للدفاع عن عقيدته الشيعية بكل مايملك من ادلة وحجج وبراهين، الامرالذي صار معه الشيخ الطوسي علما من اعلام التشيع، حيث‏يشار اليه بالبنان، اذ ليس في‏علماء عصره الا من يرى له حق التقدم، وقديجد الباحث آثار النزعة الجدلية واضحة في‏التبيان، حيث‏يتلمس القدرة الفائقة التي يتحلى بها الطوسي في محاجة الخصم واسقاط مافي يده، فلايملك بعدها غير الاذعان والاقرار بما عند مفسرنا من راي مدعوم، بالدليل‏والبرهان.

6. امتاز الشيخ الطوسي بروح علمية نزيهة وبموضوعية عالية، حيث‏يشهد له بذلك‏تفسيره التبيان والذي كان لايضيق ذرعا بآراء غيره من المفسرين، وكم شهدناه يتفق مع‏صاحب الراي السليم بغض النظر عن انتمائه المذهبي واتجاهه العقيدي، كما وجدناه يعتمدفي نقله الرواية والاثر على من سبقه من العلماء والمفسرين والرواة الذين تيقن بصحة‏مايروونه، وان لم‏يكونوا من الشيعة الامامية، كذلك لم‏يقتصر في اخذه الرواية على‏النبي‏صلى الله عليه وآله والائمة من اهل البيت‏عليهم السلام، بل كثيرا ماكان يستشهد بآراء الصحابة والتابعين‏الذين يطمئن لمنقولاتهم.

7. سلك المفسر في تفسيره منهجا مزدوجا بين التفسير بالاثر والتفسير بالراي وفق‏اسس علمية رصينة، اذ لاياخذ من المنقولات الا مايطمئن لصحتها مما تعضده الادلة‏كالاجماع او التواتر رافضا لروايات الآحاد واخبارهم اذا لم‏تسعفهم القرائن فيما يروون.

ولم‏يكتف بالنقل في تفسيره وانما اعمل عقله في استنباط الراي السديد وفن الذهنية‏الاسلامية، ذات الطابع الشمولي التي تميز بها الطوسي باعتباره فقيها مجتهدا وعالمامتكلما.

8. اعتمد الآيات القرآنية الكريمة، لكي يفسر بها آيات اخر، وفن منهج التفسير القائل‏بان القرآن يفسر بعضه بعضا، ويشهد بعضه على بعض، كما واعتمد السياق القرآني، ونظم‏الآيات في احيان كثيرة، ليستنبط منها رايا او يستخرج منها معنى.

9. استعان المفسر باسباب النزول باعتبارها قرائن حالية، يمكن ان توضح معنى النص‏القرآني، وتسهم في توجيهه وجهة اكثر دقة، وضمن هذا المنهج لم‏يكن المفسر ليقبل كل‏ماروي في اسباب النزول، وانما كان يقف موقف الفاحص الخبير ليرفض مايرى ضرورة‏رفضه ويقبل ماتطمئن اليه نفسه، ويرجح مايراه مناسبا بعد تدقيق وتمحيص، وبحث‏واستفصاء يتم عن روح علمية عالية وموضوعية جديرة بالثناء.

10. اما بالنسبة للجانب اللغوي، فقدراينا الشيخ الطوسي لغويا ونحويا بكل مافي‏الكلمة من معنى، حيث كان يسرد آراء اللغويين والنحاة، ثم ياتي عليها لينسف ماينسف‏منها بدليل، ويثبت مايثبت منها بحجة وبرهان، وكان يطرح رايه الواضح المتميز والمغايرلآراء غيره من اهل اللغة والنحو بجراة عظيمة تنبئ عن وجود ثقافة لغوية ونحوية ضخمة‏تؤهله ان يكون في مصاف علماء النحو واللغة، اما بالنسبة للقراءات فلم‏يستنكر على احدمن القراء قراءته، وانما كان يقول: بجواز القراءة بما يتداوله القراء، ولذلك يطرح آراءهم‏جميعا في تبيانه، وان كان يرجح بعض القراءات على البعض الآخر.

11. اما موقفه من الشعر والشعراء، فكان سلبيا حيث‏يقول:

ولولا عناد الملحدين وتعجرفهم لمااحتيج الى الاحتجاج بالشعر وغيره، للشي‏ءالمشتبه في القرآن; لان غاية ذلك ان يستشهد عليه ببيت‏شعر جاهلي، او لفظ منقول عن‏بعض الاعراب، او مثل سائر عن بعض اهل البادية، ولاتكون منزلة النبي‏صلى الله عليه وآله - وحاشاه‏من ذلك - اقل من منزلة واحد من هؤلاء.

ورغم قناعة المفسر بعدم جواز الاحتجاج بشعر الشعراء على القرآن، الا انه استشهدبالشعر مبررا ذلك بقوله: «انما يحتج علماء الموحدين بشعر الشعراء وكلام البلغاء اتساعافي العلم وقطعا للشغب‏».

12. ناقش الطوسي آراء المفسرين، ورجح آراء بعضهم على البعض الآخر، كما رفض‏اقوالهم احيانا، وطرح رايا يخالف ماقالوه مستندا في كل ذلك الى حجة او دليل.

13. رغم ان الطوسي لم‏يفرد ابوابا للموضوعات الفلسفية الا انه ضمن تبيانه الكثير من‏الآراء الفلسفية في معرض مناقشته‏لاصحاب المذاهب المختلفة والمدارس الكلامية كماهو الحال في ردوده على اشكالات وآراء المعتزلة والخوارج والمجسمة والمشبهة‏والمجبرة والمفوضة وغيرهم.

14. دافع الشيخ الطوسي عن آراء الامامية ومعتقداتهم، وكان يقيم الادلة القاطعة على‏كل متبنياتهم الفكرية والعقائدية كما هو وارد في موضوع العدل والعصمة والمتعة، وخلق‏القرآن وماشابه ذلك.

15. تخفف الشيخ الطوسي في حديثه عن المبهمات في القرآن الكريم، وسكت عماسكت عنه القرآن الكريم، ولم‏يتكلف في التاويل باكثر ممايجب، وربما كان يعتبر الخوض‏في مثل تلك المسائل والعمق فيها من صوارف التفسير التي لايرى الطوسي ضرورة في سبرغورها والغوص في تفاصيلها.

16. لم‏نجد الشيخ الطوسي يميز بين التاويل والتفسير، كما هو الحال عند المتاخرين‏من المفسرين، وانما كان يورده باعتباره مرادفا للتفسير ولايفرق بينهما، وكان عندما يريدطرح آراء المفسرين يقول:

«وقال اهل التاويل‏» ويعني بهم اهل التفسير.

17. اشبع المفسر آيات الاحكام شرحا وبحثا وتفصيلا، وقدطرح آراء بعض‏المجتهدين والمفسرين، وناقش اكثرهم رادا على قسم منهم ومبينا رايه الفقهي بوضوح‏وجلاء باعتباره مجتهدا.

18. ذكر في تفسيره الآيات الناسخة والمنسوخة، مع رده على بعض المفسرين الذين‏خالفوه في الراي، كما ورفض الراي القائل بان السنة ناسخة للقرآن الكريم مؤكدا ان الآية‏القرآنية لاتنسخ الا بآية قرآنية اخرى، وفق ماتقتضيه المصلحة ومشيئة الله تعالى.

19. ساهم الشيخ الطوسي مساهمة جادة في عملية تطوير المنهج التفسيري واستطاع‏ان ينقل التفسير نقلة كبيرة بعد تاليفه التبيان، حيث‏يقول في معرض حديثه عن الدوافع التي‏حملته على المشروع في كتابة تفسيره:

«اني لم‏اجد احدا من اصحابنا من عمل كتابا يحتوي على تفسير جميع القرآن،ويشتمل على فنون معانيه‏» وبذلك يعتبر التبيان اول محاولة تفسيرية وافية في تاريخ‏الامامية.

20. مال الشيخ الطوسي الى الايجاز غير المخل في تفسيره، لذلك نجده يتخفف كثيراعما لاطائل تحته، بينما يشبع الآيات الكريمة شرحا ليوفيها حقها من البحث والتفسيرمتحاشيا الخوض في شروح هامشية وتفصيلات جانبية لاعلاقة لها بالتفسير، ولاتخدم في‏استيضاح المعنى المراد من النص القرآني.

21. احتوى التبيان على بعض الاشارات العلمية التي تنم عن سعة افق لتفكير الطوسي‏وانفتاحه على الآيات الكونية بروح علمية ورؤية ناضجة، حيث كان لايستبعد ان تكون‏الارض كروية الشكل، مخالفا بذلك جمعا من المفسرين واصحاب الراي، كما كان يؤكدحركة الافلاك ونشوء السحاب من بخار الارض، ومثل هذه التطورات السليمة تعني سبقاعلميا رائدا، اذا ماعلمنا ان الف عام تفصل بيننا وبين عصر الطوسي حيث القرن الخامس‏الهجري.

22. وختاما يبقى اسم الشيخ الطوسي مقترنا باسم الحوزة العلمية التي ارسى قواعدهافي النجف الاشرف، يوم هاجر اليها; ليفتتح اول مدرسة من نوعها هناك، صارت فيما بعدمن اكبر الجامعات الاسلامية والمعاهد العلمية التي تخرج منها مايعد بالآلاف من اساطين‏واعاظم الفقهاء وكبار الفلاسفة ونوابغ المتكلمين وافاضل المفسرين واجلاء اللغويين‏والادباء وغيرهم ممن خبر العلوم الاسلامية بانواعها، وبرع فيها ايما براعة.